انعقد مؤتمر الصومام بتاريخ 20 أوت 1956 وأقر مبدأين أساسيين لإنجاح الثورة التحريرية الكبرى: أولوية الداخل على الخارج، وأولوية السياسي على العسكري.
لكن ذلك ساهم مرة أخرى في انقسام جبهة التحرير الوطني من الداخل، انطلاقا من أن أولوية السياسي على العسكري لا تخدم العسكريين، وأولوية الداخل على الخارج لا تخدم القيادة في الخارج.
ثم اشتد الصراع في مؤتمر طرابلس بين هيئة أركان الجيش والحكومة المؤقتة برئاسة بن يوسف بن خدة.
واستمر الصراع على السلطة بتأسيس المكتب السياسي لجبهة التحرير بتلمسان.
نال أحمد بن بلة ثقة المجلس الوطني التأسيسي الذي جرى انتخابه في سبتمبر 1962، وخُولت له مهام تعيين الحكومة والتشريع ووضع دستور للبلاد، وبذلك أُعطي الدور الأكبر للجيش، وعُين هواري بومدين وزيرا للدفاع.
في أبريل 1963 استقال الأمين العام للحزب محمد خيضر بسبب خلافه مع بن بلة حول طريقة تنظيم الحزب، وبعد فترة قصيرة اتهم محمد بوضياف بالتآمر على البلاد وتم اعتقاله، واستقال فرحات عباس احتجاجا على طريقة إعداد الدستور .
وتحولت منطقة القبائل إلى بؤرة للتوتر كادت تؤدي إلى حرب أهلية. وكان بن بلة في كل ما حدث ويحدث يتنصل من مسؤوليته محملا بومدين، ومعه كل العسكريين، مآسي حرب الحدود، وتوريط الجيش في بلاد القبائل.
كان بن بلة يوظف خليطا غريبا من اشتراكيات استلهمها من تجارب يوغسلافية و صينية و كوبية و سوفييتية، مضفيا عليها مسحة إسلامية لتصبح قابلة للتصديق.
في مؤتمر جبهة التحرير الوطني الذي عقد في 16 أفريل 1964، كان المسؤولون يشتكون من تدخّل قادة النواحي العسكرية في شؤونهم، مطالبين بأوليّة النضال الحزبي على الأوامر العسكرية وإشراف المكتب السياسي للحزب على التوعية السياسية داخل وحدات الجيش.
لم يطلب هواري بومدين الكلمة أثناء الأشغال، وظلّ صامتا يتابع باهتمام، ولما بدأ الحاضرون يهتفون مطالبين بتطهير الجيش من الضباط الفارّين من الجيش الفرنسي، وكان العقيد شعباني من أشدّ المتحمّسين لهذا المطلب، فهم بومدين أنه مقصود بذلك. وكانت تلك القطرة التي أفاضت الكأس.
طلب بومدين الكلمة وصعد إلى المنصّة وبنبرة الإنسان الواثق في نفسه، ردّ في خطاب عنيف دام إلى ساعة متأخّرة من الليل على انتقادات القاعة بالقول: « من الطاهر بن الطاهر الذي يريد أن يطهّر الجيش؟»
ساد صمت ثقيل في القاعة، وأضاف بومدين أن طرد الضباط الفارّين من الجيش الفرنسي مطلب غير واقعي، لأن هؤلاء خدموا الثورة رغم التحاقهم المتأخّر بها، وأن الجيش استفاد أثناء حرب التحرير ويستفيد الآن من تجربتهم التقنية، مضيفا: « وهم جزائريون مثلكم ».
وكان الخلاف بين العقيد شعباني وبين بومدين هو إسناد بومدين للمراكز الحساسة في وزارة الدفاع الوطني إلي الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، الذين كان شعباني يعتبرهم قوة ثالثة وخطرا حقيقيا على الثورة. وأشيع آنذاك أن بن بلة يريد استخلافه على رأس الناحية بعمار ملاح و رفض شعباني مغادرة مقر الناحية.
كان العقيد شعباني عضوا في قيادة الأركان، نائبا للطاهر الزبيري إلى جانب بن سالم والعقيد عباس.
سعى بن بلة إلى اتخاذ بعض الإجراءات و القرارات الفردية كعزل بعض الأطراف.
و كانت نيّته عزل عبد العزيز بوتفليقة هو ما أدى ببومدين إلى اتخاذ القرار بالانقلاب عليه و بتعجيله .
على الساعة الرابعة والنصف فجرا، تلقت مصالح السفارة الأمريكية بالجزائر، أخبارا مؤكدة عن شروع العقيد هواري بومدين قائد أركان الجيش الشعبي الوطني في تنفيذ انقلاب عسكري ضد نظام الرئيس أحمد بن بلة، فأبرق المشرفون على السفارة فورا إلى مسؤوليهم في واشنطن، يخبروهم بما تناهى إلى مسامعهم من أنباء عن بداية الانقلاب.
و جاء في البرقية « إن الجيش وقيادته ممثلة في شخص هواري بومدين، استغلت انشغال بن بلة بالتحضير لقمة زعماء الدول الآفروآسياوية التي كان مقررا عقدها بالجزائر في 29 جوان من نفس السنة ».
وبذلك أطاح بومدين برفيقه بن بلة على إثر العملية التي سمّاها بالتصحيح الثوري ليوم 19 جوان 1965، ليحكم الجزائر بعدها (1965-1978) باسم الشرعية الثورية وعبر مجلس الثورة والوزراء الذي ضم 26 عضوا من بينهم 24 عسكريا.
وجاء في البرقية السرية التي أرسلتها السفارة الامريكية بالجزائر الى واشنطن « أن مصالح الأمن قامت خلال الساعات والأيام القليلة التي أعقبت الانقلاب على بن بلة، باعتقال وتوقيف أكثر من 600 مناضل شيوعي متعاطف مع النظام السابق، قاموا إما بالتظاهر في الشوارع ضد نظام بومدين، أو ضُبطوا في اجتماعات سرية تحضيرا لعمليات سرية ضد نظام الحكم الجديد، وأن من بينهم رعايا أوروبيون ».
كما قالت البرقية : « إن أكثر الأصوات المعارضة لنظام الحكم الجديد كانت قادمة من خارج الجزائر، خصوصا من جانب الطلبة الجزائريين المتمدرسين بالخارج ».
وأضافت البرقية: « إن السلطات الجزائرية تخشى من محاولة أنصار بن بلة إشعال الوضع، تزامنا مع وصول وزراء خارجية الدول الأفروآسياوية للاجتماع بالجزائر والتمهيد لعقد قمة الرؤساء، خصوصا في ظل وجود تقارير عن حالة غليان كبيرة في بعض الأحياء الشعبية الفقيرة بالعاصمة ».
كما لفتت البرقية إلى « أن الوضع مختلف تماما في منطقة القبائل، حيث ساد الهدوء و الحذر »، لتضيف البرقية بالقول « إن أقطاب المعارضة بمنطقة القبائل اعتمدوا الترقب والانتظار ولم يعبّروا عن أي موقف.»
تم وضع بن بلة في إقامة جبرية دامت 15 سنة، أي أنه لم يخرج منها إلا بمجيء الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد وإصدار عفو رئاسي عنه.
خلال فترة حبسه كانت والدته الطاعنة في السن الوحيدة التي كان يُسمح لها بزيارته بعد إخضاعها لتفتيش دقيق يتنافى مع المبادئ الانسانية.
حيث كانت مجبرة حتى على نزع المحرمة التي تضعها على رأسها و يتم تفتيش شعرها بدقة مما أدى إلى مرضها كونها كانت طاعنة في السن .
حتى حين توفيت رفض بومدين طلب بن بلة إلقاء آخر نظرة على والدته.
و بما أنّ التاريخ يكتبه المنتصرون تم وصفه بالكذب والفساد وممارسة الإرهاب للاستبداد بالحكم، و « الطاغية الذي عُزل اليوم من الحكم » وأنه « سيلقى المصير الذي خصّ به التاريخُ كل المستبدين ».
ويقال أن بن بلة قدّم ذات يوم، وزير دفاعه بومدين لصحافي أجنبي بهذه العبارة: « هذا هو الرجل الذي يتآمر ضدي »، وهي شهادة للرئيس السابق الشادلي بن جديد.
وفي يوم الخامس جويلية من عام 1965، أبرقت السفارة الأمريكية بالجزائر نحو مسؤولي المخابرات الأمريكية في واشنطن، برسالة سرية تضمنت عرضا لبعض المشاكل التي باتت تعترض سبيل هواري بومدين من طرف بعض القادة في السلطة وعناصر مجلس الثورة.
وقالت البرقية إن كلا من فرحات عباس وبن يوسف بن خدة، باتا يجاهران بمعارضتهما لنظام الحكم الجديد، فيما يدعو فرحات عباس إلى تنظيم انتخابات من دون تدخل الجيش لإفراز قيادة جديدة.
قام بومدين بإقصاء كل المعارضين طول فترة حكمه، ولم يختلف عن بن بلة من حيث الانفراد بالسلطة، بل كان مصير الجزائر كله بين أيديه .
وقد عكست أحداث 19 جوان 1965 صراعا عميقا حول السلطة في الجزائر المستقلة، حتى أن الانقلاب نتج عنه انقسام في المواقف الإقليمية والدولية.
جمال عبد الناصر في مصر مثلا كان ضد العملية، مما أدى إلى توتر في العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر ومصر لفترة محدودة، قبل أن تعود إلى مجراها الطبيعي نظرا لدفاع هواري بومدين عن كبرى القضايا العادلة ألا و هي القضية الفلسطينية، حيث شاركت جيوش جزائرية في حربي 1967 و1973، رغم أن الجزائر كانت مستقلة حديثا و جيشها كان ضعيف نفسيا و عسكريا مقارنة بالجيوش المشاركة في الحرب ضد إسرائيل.
و حسب بعض المؤرّخين كانت هذه هي الورقة الاخيرة التي استغلها بومدين للتقرب من جمال عبد الناصر و ادراجه ضمن قائمة « الزعماء العرب » !
مع حلول ذكرى 19 جوان 1965 في الجزائر، يعود الجدل السياسي والتاريخي حول الحادثة التي تُعتبر أول انقلاب عسكري في تاريخ الجزائر المستقلة، خاصة وأنه من الممكن اعتبارها محطة أولى لتغلغل المؤسسة العسكرية في دواليب السلطة بالجزائر، وهو المشهد الذي ظل حاضرا لعقود من الزمن.
والحقيقة أن تسمية العملية بالتصحيح الثوري، نسبةً إلى تصحيح مسار الثورة واسترجاع الشرعية الثورية للحاكم، ظلت محلّ جدل، خاصة وأن الانقلابات العسكرية من مظاهر الدكتاتورية وهو ما ميّز دول العالم الثالث.
التحرير
Comments