"الخيانة" و "الشّرذمة"… لغة الإقصاء في "الجزائر الجديدة"
- cfda47
- 13 نوفمبر
- 2 دقيقة قراءة

في "الجزائر الجديدة"، لم تعد تهمة “الخيانة” مجرد توصيف سياسي أو قضائي، بل تحولت إلى أداة يومية لإسكات الأصوات المنتقدة. كل من يجرؤ على التعبير عن رأي مخالف، سواء في الإعلام أو في الشارع أو على منصات التواصل الاجتماعي، يجد نفسه في مواجهة هذه التهمة الجاهزة التي لا تحتاج إلى محاكمة ولا إلى أدلة. إنها كلمة مشحونة بالرمزية، تُستخدم لتجريد الآخر من شرعيته الوطنية، وتحويله إلى خصم أو عدو في نظر المجتمع.
هذا التحول يعكس دينامية خطيرة في العلاقة بين السلطة والمجتمع. فالمصطلحات التي تنشأ في الخطاب الرسمي لا تبقى حبيسة المؤسسات، بل تتسرب سريعًا إلى الشارع، حيث يعاد إنتاجها وتوظيفها في الصراعات اليومية بين المواطنين. المثال الأبرز هو لفظ “الشرذمة” الذي أطلقه القايد صالح على نشطاء الحراك السلمي، ثم التقطه جزء من الشارع، خاصة التيار “الباديسي”، ليستخدمه ضد الجزائريين المعتزين بأصلهم الأمازيغي. هكذا تتحول الكلمة من أداة قمع سياسي إلى وسيلة إقصاء اجتماعي، تُعمّق الانقسامات وتزرع الشكوك بين أبناء الوطن الواحد.
الخطورة لا تكمن فقط في انتشار هذه الألفاظ، بل في ما تحمله من دلالات. فـ”الخيانة” ليست مجرد شتيمة، بل اتهام يضع المختلف خارج دائرة الانتماء الوطني. و”الشرذمة” ليست مجرد وصف، بل محاولة لتقزيم الآخر وتجريده من قيمته كمواطن. هذه اللغة تُحوّل النقاش السياسي إلى امتحان ولاء، حيث يُقاس الانتماء بالاصطفاف وراء خطاب السلطة أو الأغلبية، لا بالحقوق والواجبات التي يفترض أن تجمع الجميع تحت سقف المواطنة.
في هذا السياق، يصبح التخوين والإقصاء جزءًا من الحياة اليومية، ويُغلق باب الحوار العقلاني. المواطن الذي يرفض الاصطفاف يُتهم بالخيانة، والناشط الذي يطالب بالحقوق يُختزل في “شرذمة”، والجزائري الذي يعتز بأمازيغيته يُصوَّر كخصم للوطن. هذه الممارسات تزرع الاستقطاب وتُحوّل المجتمع إلى فضاء مشحون بالشكوك والاتهامات، حيث لا مكان للاختلاف ولا للتعددية.
إن أخطر ما في الأمر هو أن هذه اللغة تُعيد إنتاج منطق السلطة داخل المجتمع نفسه. فبدل أن تكون الكلمات وسيلة للتعبير والنقاش، تتحول إلى أدوات قمع متبادل. وبدل أن تُستخدم لحماية الوطن، تُستعمل لتقسيمه. بهذا الشكل، يصبح المواطن شريكًا في إعادة إنتاج خطاب الإقصاء، ويُساهم من حيث لا يدري في إضعاف النسيج الوطني.
المطلوب اليوم ليس فقط فضح هذه الممارسات، بل إعادة الاعتبار للغة كأداة للتواصل لا كسلاح للتخوين. فالوطن لا يُبنى بالاتهامات الجاهزة ولا بالوصمات، بل بالحوار والاعتراف بالاختلاف. الجزائر الجديدة لن تكون جديدة حقًا إلا إذا تخلت عن هذه اللغة الإقصائية، وفتحت المجال أمام كل الأصوات لتشارك في صياغة مستقبلها دون خوف من أن تُرمى بتهمة “الخيانة” أو تُختزل في “شرذمة”.
التحرير



تعليقات