من أسطول الصمود إلى نار التخوين: حين يُحذف البيان وتُخنق المواقف
- cfda47
- قبل 6 أيام
- 3 دقيقة قراءة

في حادثة أثارت موجة من التساؤلات والانتقادات، اختفى بيان رسمي صادر عن السلطة الوطنية لضبط السمعي البصري من الموقع الإلكتروني للمؤسسة العمومية للتلفزيون الجزائري، ومن عدة صفحات إعلامية. البيان، الذي أكد على ثبات الموقف الوطني من القضية الفلسطينية ودعا وسائل الإعلام إلى احترام الضوابط القانونية، لم يكن مجرد تصريح عابر، بل وثيقة مؤسساتية تحمل رمزية سياسية ومهنية في لحظة حساسة من التفاعل الشعبي والرسمي مع العدوان على غزة.
في مشهد إعلامي جزائري يزداد تعقيدًا، تزامن حذف بيان السلطة الوطنية لضبط السمعي البصري من الموقع الرسمي للتلفزيون العمومي مع حملة تخوين علنية طالت الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم، عبد الرزاق مقري. هذا التزامن لم يكن عابرًا، بل كشف عن خلل بنيوي في العلاقة بين الإعلام الرسمي، المؤسسات التنظيمية، والفاعلين السياسيين، خاصة حين يتعلق الأمر بقضية وطنية جامعة كالقضية الفلسطينية.
غياب البيان... حضور الأسئلة
في لحظة إنسانية وسياسية فارقة، شارك الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم، عبد الرزاق مقري، في أسطول الصمود المتجه نحو غزة، دعمًا للشعب الفلسطيني في مواجهة آلة الاحتلال. خطوة رمزية تعبّر عن امتداد الموقف الجزائري الشعبي تجاه القضية الفلسطينية، وتُجسد التزامًا أخلاقيًا وسياسيًا لا يُفترض أن يُقابل إلا بالتثمين والتضامن.
لكن المفارقة أن هذه المبادرة قوبلت بحملة تخوين شرسة من طرف بعض المنابر الإعلامية الجزائرية الموالية للسلطة، التي لم تتردد في التشكيك في نوايا مقري، واتهامه بالتشويش على الموقف الرسمي، بل وبالانحراف عن الثوابت الوطنية واتّهمته بالعمالة لإسرائيل. حملة بدت وكأنها محاولة لتكميم الصوت السياسي المختلف، حتى حين يكون في قلب المبادرات الإنسانية.
البيان المحذوف لم يكن مثيرًا للجدل في مضمونه، بل أكد على ثوابت السياسة الجزائرية تجاه فلسطين، وعلى ضرورة احترام الضوابط المهنية في التغطية الإعلامية، مع التحذير من التوظيف السياسوي والتشهير غير المؤسس. لكن اختفاؤه المفاجئ من المنصات الرسمية أثار الريبة، خاصة وأنه جاء في سياق تفاعلات إعلامية متوترة حول المبادرات الإنسانية الجزائرية تجاه غزة.
اختفاء البيان يطرح إشكالية أعمق: هل هناك أطراف ترى في هذا الموقف الرسمي "إزعاجًا" أو "تقييدًا" لخطاب إعلامي معين؟ وهل باتت بعض المؤسسات الإعلامية العمومية خاضعة لتوجيهات غير معلنة تتجاوز صلاحيات سلطة الضبط؟
بيان السلطة: موقف جامع أم ورقة مزعجة؟
تساءل مقري عن الجهة التي أمرت بالحذف، معتبرًا أن تغييب البيان يُعد مؤشرًا على وجود توجيهات غير معلنة، وربما صراع داخلي حول من يملك حق التعبير باسم الدولة. لكن بدل أن يُفتح نقاش حول شفافية المؤسسات الإعلامية، وحق المواطن في معرفة المواقف الرسمية، قوبلت تساؤلاته بمزيد من التخوين والتشكيك.
ما تعرض له مقري يُعد نموذجًا لانزلاق إعلامي خطير، حيث يُستبدل النقاش السياسي بالتخوين، ويُستعمل الإعلام كأداة لتصفية الحسابات بدل أن يكون فضاءً للنقاش العمومي. هذا السلوك يتناقض مع ما ورد في بيان سلطة الضبط نفسها، التي شددت على ضرورة تحري الدقة، وتفادي إصدار الأحكام دون سند، واحترام أخلاقيات المهنة.
حرية التعبير بين النصوص والممارسات
ما حدث يُظهر بوضوح أن بعض المنابر الإعلامية الموالية للسلطة لم تعد تكتفي بنقل الخبر، بل باتت تمارس دورًا سلطويًا في تصنيف المواقف، وتخوين الأصوات، وتوجيه الرأي العام نحو سردية واحدة لا تحتمل التعدد أو النقد. هذا السلوك يُعد انحرافًا عن وظيفة الإعلام، وإخلالًا بأخلاقيات المهنة، كما ورد في بيان سلطة الضبط نفسها قبل أن يُحذف.
السلطة الوطنية لضبط السمعي البصري شددت في بيانها على أن حرية التعبير لا تعني المساس بالثوابت الوطنية أو إصدار أحكام دون سند. كما أكدت في بيانها أن حرية التعبير وواجب التحفظ وجهان متلازمان، وأن النقاش العمومي لا يبرر المساس بالأشخاص أو التشكيك في الثوابت.
لكن حذف البيان نفسه يُعد مساسًا بحرية التعبير المؤسساتية، ويطرح تساؤلات حول مدى استقلالية الإعلام العمومي، وقدرته على نقل المواقف الرسمية دون انتقائية أو تدخل.
الإعلام الوطني في اختبار المصداقية
إن مشاركة مقري في أسطول الصمود، وما تلاها من تخوين، ثم حذف البيان، تكشف عن أزمة عميقة في المشهد الإعلامي الجزائري، حيث يُخنق النقاش، وتُحذف المواقف، ويُخون المختلف. في زمن تتطلب فيه القضايا الإنسانية وضوحًا وتضامنًا، يبدو أن بعض المؤسسات الإعلامية اختارت الاصطفاف بدل الاستقلال، والتشويه بدل التحليل.
الجزائر، التي لطالما كانت صوتًا داعمًا لفلسطين، تستحق إعلامًا يُجسد هذا الموقف، لا يُخونه. وتستحق نقاشًا حرًا حول المبادرات والمواقف، لا يُقابل بالحذف والتشكيك.
يحتاج الإعلام الوطني إلى وضوح في الخط التحريري، واستقلالية في نقل المواقف الرسمية، خاصة تلك التي تعبّر عن إجماع وطني مثل دعم القضية الفلسطينية. فحذف بيان يُمثل موقفًا جامعًا، دون تفسير، يُضعف الثقة في المؤسسات الإعلامية، ويُربك المتلقي الذي يبحث عن خطاب واضح ومتماسك.
إن حادثة حذف البيان ليست مجرد خلل تقني أو قرار إداري، بل مؤشر على أزمة أعمق في إدارة المحتوى الإعلامي الرسمي، وعلى الحاجة إلى شفافية أكبر في التعامل مع المواقف الوطنية. فالموقف من فلسطين ليس محل جدل، بل ثابت تاريخي، وأي محاولة لتقويضه إعلاميًا تستدعي وقفة نقدية ومهنية، دفاعًا عن صدقية الإعلام الوطني، وعن رمزية الموقف الجزائري في نصرة الشعوب المستضعفة.
حكيم ش
تعليقات